جاك ما.. قصة رجل بدأ من 12 دولاراً ليصبح أغنى رجل في الصين

في عالم يتغير بسرعة ويشهد تحولات اقتصادية غير مسبوقة، تبرز بعض الشخصيات التي تشكل استثناءً نادراً، وتلهم الملايين حول العالم. أحد هذه الشخصيات هو جاك ما، المؤسس والرئيس التنفيذي السابق لمجموعة “علي بابا”، الذي أصبح رمزاً للنجاح الصيني في العصر الرقمي. لم يكن جاك ما وريثاً لثروة، ولا وُلد في بيئة مواتية تهيّئه للنجاح، بل بدأ حياته من قاع الفقر، بمبلغ لم يتجاوز 12 دولاراً، لكنه استطاع أن يصنع إمبراطورية إلكترونية عملاقة تُقدّر بمليارات الدولارات. هذه قصة كفاح ملهمة لرجل أعاد تعريف النجاح في عصر العولمة.

النشأة والبدايات المتواضعة

ولد جاك ما، واسمه الحقيقي “ما يون”، في 10 سبتمبر 1964 بمدينة هانغتشو، عاصمة مقاطعة تشجيانغ شرق الصين. نشأ في أسرة متواضعة، ولم يكن والده سوى فنان شعبي يؤدي القصائد الصينية التقليدية، وهي مهنة لم تكن تدر دخلاً كبيراً في تلك الفترة، خاصة خلال السنوات الصعبة بعد الثورة الثقافية في الصين. عانى جاك ما في طفولته من ضعف جسدي جعل منه هدفاً للتنمر من أقرانه، لكنه أظهر منذ صغره شغفاً غير اعتيادي باللغة الإنجليزية.

كان الطفل الصيني الصغير يجوب شوارع هانغتشو صباح كل يوم بدراجته الهوائية، ليتطوع كمرشد سياحي للسياح الأجانب، فقط من أجل تعلم اللغة الإنجليزية مجاناً. ولم يكن يأخذ مالاً، بل كان يطلب من السياح أن يتحدثوا معه ويتبادلوا الرسائل والرسائل البريدية، ليطور من مهاراته اللغوية. هذه المبادرة الذاتية في عمر مبكر كانت بمثابة أول خطوة نحو بناء عقلية ريادية فريدة.

الصراع مع النظام التعليمي والوظائف

لم تكن المسيرة الأكاديمية لجاك ما مشرقة. فقد رُفض ثلاث مرات في امتحانات القبول للمدارس المتوسطة العليا، كما رُفض مرتين عند محاولته دخول الجامعة. ورغم إخفاقاته المتكررة، إلا أنه لم يتوقف عن المحاولة، حتى تم قبوله أخيراً في “معهد هانغتشو للمعلمين”، وهو أحد المعاهد المتوسطة نسبياً في تصنيفه الأكاديمي. تخصص في اللغة الإنجليزية وتخرج عام 1988 ليعمل بعد ذلك أستاذاً لهذه اللغة براتب متواضع لم يتجاوز 12 دولاراً شهرياً.

لكن على الرغم من عمله كمدرّس، ظل جاك ما يحلم بالانخراط في عالم الأعمال. حاول التقديم لأكثر من 30 وظيفة مختلفة، من ضمنها العمل في الشرطة، وتم رفضه في جميعها. حتى عندما افتتح مطعم كنتاكي الشهير فرعاً في مدينته، تقدم جاك ما مع 24 شخصاً آخرين بطلبات توظيف، تم قبول الجميع ما عدا هو.

أولى خطواته نحو عالم الإنترنت

في عام 1995، سافر جاك ما إلى الولايات المتحدة كمترجم مرافق لوفد صيني تجاري، وهناك تعرّف لأول مرة على الإنترنت. وعندما كتب كلمة “بيرة” (Beer) في محرك البحث، لاحظ أن نتائج البحث لا تتضمن أي محتوى صيني. هذا الاكتشاف البسيط أيقظ في داخله شعوراً بوجود فجوة رقمية كبيرة بين الصين والعالم، ومن هنا بدأت فكرة الإنترنت تتبلور في ذهنه.

عند عودته إلى الصين، أطلق أول مشروع إلكتروني له بعنوان “China Pages”، وهو موقع لتسويق الشركات الصينية عبر الإنترنت. لكن المشروع فشل سريعاً بسبب نقص التمويل والخبرة، ولأن البيئة الصينية في التسعينات لم تكن مستعدة بعد لفكرة التجارة الإلكترونية. ومع ذلك، لم يتوقف جاك ما، بل اعتبر الفشل تجربة تعليمية مهمة.

تأسيس مجموعة علي بابا

في عام 1999، جمع جاك ما 17 من أصدقائه المقربين في شقته الصغيرة بمدينة هانغتشو، وعرض عليهم فكرته حول إنشاء سوق إلكتروني يربط بين البائعين والمشترين الصينيين بشكل مباشر على الإنترنت. جمع رأس مال قدره 60 ألف دولار، وأطلق موقع “Alibaba.com”، في وقت كانت فيه الإنترنت لا تزال في مراحلها الأولى في الصين، وكانت البنية التحتية الرقمية بدائية للغاية.

كان اسم “علي بابا” مستوحى من قصة “علي بابا والأربعين لصاً” من ألف ليلة وليلة، إذ رأى جاك ما أن الاسم يحمل بعداً عالمياً وسهولة في التذكّر. كما أراد أن يكون بمثابة “الكلمة السحرية” التي تفتح أبواب الفرص أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة في الصين.

واجهت “علي بابا” العديد من التحديات في بدايتها، خاصة في ظل غياب الثقة بين المستخدمين في التعاملات الإلكترونية. لم يكن الناس في الصين معتادين على الشراء والدفع عبر الإنترنت، مما جعل من مهمة بناء الثقة تحدياً استراتيجياً. فابتكر جاك ما نظام “الضمان” (Escrow)، الذي يتم من خلاله الاحتفاظ بأموال المشتري لدى طرف ثالث حتى يتم استلام المنتج، ما ساعد بشكل كبير على زيادة مصداقية المنصة.

النمو والانفجار الاقتصادي

في عام 2003، أطلق جاك ما منصة “Taobao”، التي جاءت كاستجابة مباشرة لتوسع موقع eBay في السوق الصينية. كانت Taobao منصة مجانية تماماً، في حين كان eBay يفرض رسوماً على خدماته. استخدم جاك ما تكتيكاً ذكياً، إذ ركز على خدمة البائعين المحليين وقدم لهم أدوات تسويقية مجانية مع واجهة استخدام باللغة الصينية مبسطة، وهو ما أكسبه شريحة واسعة من المستخدمين.

بحلول عام 2005، قررت شركة Yahoo! الأمريكية استثمار مليار دولار في مجموعة علي بابا مقابل حصة 40%، ما ساعد على توسع سريع في خدمات الشركة وقدراتها التقنية. تبع ذلك إطلاق خدمة Alipay، وهي منصة للدفع الإلكتروني أصبحت العمود الفقري لجميع التعاملات المالية على منصات المجموعة.

في عام 2014، حققت مجموعة علي بابا أكبر اكتتاب عام في تاريخ بورصة نيويورك، حيث جمعت أكثر من 25 مليار دولار، ما جعلها واحدة من أكبر الشركات التكنولوجية في العالم.

الجدول: محطات بارزة في مسيرة جاك ما

الفلسفة الإدارية لجاك ما

يتميز جاك ما بفلسفة إدارية تعتمد على تمكين الشباب والمغامرة والابتكار المستمر. لم يكن يعتمد فقط على أصحاب المؤهلات العالية، بل كان يبحث عن الأشخاص الشغوفين الذين يمتلكون الرؤية والعزيمة. لطالما قال إن أهم ما يجب أن تبحث عنه في موظف هو “القلب”، لا فقط “العقل”.

كما اشتهر بأسلوبه الخطابي المحفّز، حيث كان يحث الشباب دائماً على الفشل، والتعلم من الأخطاء، واعتبار التحديات فرصاً. وكان يردد دائماً: “اليوم صعب، وغداً أصعب، لكن بعد غد سيكون هناك نور”.

جاك ما والابتعاد عن الأضواء

في سبتمبر 2019، أعلن جاك ما تنحيه عن منصبه كرئيس تنفيذي لمجموعة علي بابا، ليتفرغ للعمل الخيري والتعليم وريادة الأعمال الاجتماعية. جاء قراره بعد عقدين من العمل في قيادة واحدة من أكبر الإمبراطوريات التكنولوجية في العالم. وقد أسس مؤسسة جاك ما للأعمال الخيرية، التي تركز على تحسين التعليم في المناطق الريفية بالصين، وتعزيز الابتكار بين الشباب.

رغم قراره بالابتعاد عن الساحة العامة، عاد اسمه إلى الواجهة في أوقات الأزمات، خاصة عندما دخل في صدام غير مباشر مع الجهات التنظيمية الصينية بعد انتقاداته للنظام المالي في الصين، مما أدى إلى توقف الاكتتاب التاريخي لشركة “Ant Group”، الذراع المالية لمجموعة علي بابا، في اللحظات الأخيرة من عام 2020.

الأثر العالمي والاعتراف الدولي

أصبح جاك ما رمزاً عالمياً للنجاح بعد أن أدرجته مجلات مثل “فوربس” و”تايم” ضمن قائمة أكثر الشخصيات تأثيراً في العالم. كما نال جوائز متعددة من منظمات دولية نظير مساهماته في تطوير التجارة الإلكترونية والتعليم.

ولا يقتصر تأثيره على المجال الاقتصادي فحسب، بل امتد ليشمل المجالات الاجتماعية والثقافية، حيث ألهم الملايين من رواد الأعمال في الدول النامية لبدء مشاريعهم الخاصة دون أن ينتظروا تمويلاً أو فرصاً من الدولة.

الخلاصة

قصة جاك ما ليست مجرد سرد لحياة رجل نجح في بناء ثروة من الصفر، بل هي دليل حي على قوة الإرادة البشرية وقدرتها على تحدي الظروف. بدأ من هامش المجتمع الصيني براتب ضئيل لم يتجاوز 12 دولاراً شهرياً، وانتهى به المطاف إلى قيادة واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا على وجه الأرض. وفي زمن يشهد تغيرات متسارعة في التقنية والاقتصاد، تظل قصة جاك ما تذكرة مهمة بأن النجاح لا يحتاج بالضرورة إلى موارد ضخمة، بل إلى رؤية واضحة، وإيمان عميق، واستعداد دائم للمخاطرة.

المراجع:

• Tsai, Jung-Yi. Alibaba: The House That Jack Ma Built. HarperBusiness, 2016.

• Lee, Kai-Fu. AI Superpowers: China, Silicon Valley, and the New World Order. Houghton Mifflin Harcourt, 2018.